فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

وفي قوله تعالى: {لإيلافِ قُريْشٍ}
الإيلاف مأخوذ من أَلِف يأْلَف، وهي العادة المألوفة، ومنه قولهم ائتلف القوم.
وفي قوله: {لإيلاف قريش} أربعة أقاويل:
أحدها: نعمتي على قريش، لأن نعمة الله عليهم أن ألفه لهم، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: لإيلاف الله لهم لأنه آلفهم إيلافًا، قاله الخليل بن أحمد.
الثالث: لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي، وهذا معنى قول الحسن.
الرابع: لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في معايشهم، قاله مكحول.
وفي اللام التي في {لإيلاف قريش} قولان:
أحدهما: أنه صلة يرجع إلى السورة المتقدمة من قولهم {ألم تر كيف} إلى أن قال: {فجعلهم كعصْف مأكولٍ} لإيلاف قريش، فصار معناه أن ما فعله بأصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش، قاله ثعلب، وكان عمر وأبيّ بن كعب لا يفصلان بين السورتين ويقرآنهما كالسورة الواحدة، ويريان أنهما سورة واحدة، أي: ألم تر لإيلاف قريش.
الثاني: أن اللام صلة ترجع إلى ما بعدها من قوله: {فَلْيَعْبُدوا رب هذا البَيْتِ} ويكون معناه لنعمتي على قريش {فَلْيَعْبُدوا رَبَّ} هذا البيت، قاله أهل البصرة.
وقرأ عكرمة، {ليألف قريش}، وكان يعيب على من يقرأ: {لإيلاف قريش}.
وقرأ بعض أهل مكة: {إلاف قريش}، واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلا تتركْنهُ ما حَييتَ لمعظمٍ ** وكن رجلًا ذا نَجدةٍ وعفافِ

تَذودُ العِدا عن عُصْبةٍ هاشميةٍ ** ألا فُهُمُ في الناس خيرُ إلافِ

وأما قريش تلده فهم بنو النضير بن كنانة، وقيل بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ومن لم تلده فهر فليس من قريش، وعلى المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده: من قريش، وإن لم يكونوا من بني فهر، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكنًا، قال الشاعر:
أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعًا ** به جمع اللَه القبائلَ مِن فهر

واختلفوا في تسميتهم قريشًا على أربعة أقاويل:
أحدها: لتجمعهم بعد التفرق، والتقريش التجميع، ومنه قول الشاعر:
إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ** في حَديثٍ مِن دَهْرِهم وقَديمِ

الثاني: لأنهم كانوا تجارًا يأكلون من مكاسبهم، والتقريش التكسب.
الثالث: أنهم كانوا يفتشون الحاج عن ذي الخلة فيسدون خلته، والقرش: التفتيش، قال الشاعر:
أيها الشامتُ المقِّرشُ عَنّا ** عند عَمرو فهل له إبْقاءُ

الرابع: أن قريشًا اسم دابة في البحر، من أقوى دوابه، سميت قريشًا لقوتها وأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعالى، قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر:
هكذا في العباد حيُّ قريش ** يأكلون البلادَ أكْلًا كشيشًا

ولهم آخرَ الزمان نبيٌّ ** يَكثر القتل فيهمُ والخموشا

يملأُ الأرضَ خَيلةً ورجالًا ** يحشُرون المطيَّ حشْرًا كميشًا

تأكل الغثَّ والسَمينَ ولا تت ** رُكُ يومًا في جناحين ريشًا

وقريش هي التي تسكن البح ** ر بها سميت قريش قريشًا

سلّطت بالعلو في لجج البحر ** على سائر البحور جيوشًا

{إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ} كانت لقريش في كل عام رحلتان والرحلة السفرة، لما يعانى فيها من الرحيل والنزول، رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلبًا للتجارة والكسب.
واختلف في رحلتي الشتاء والصيف على قولين:
أحدهما: أن كلتا الرحلتين إلى فلسطين، لكن رحلة الشتاء في البحر، طلبًا للدفء، ورحلة الصيف على بصرى وأذرعات، طلبًا للهواء، قاله عكرمة.
الثاني: أن رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية، ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة، قاله ابن زيد.
فإن قيل فما المعنى في تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف؟ ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم كانوا في سفرهم آمنين من العرب لأنهم أهل الحرم، فذكرهم ذلك ليعلموا نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم.
الثاني: لأنهم كانوا يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون، كما قال الشاعر فيهم:
يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه ** هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ عبدِ مَنافِ

الآخذون العهدَ من آفاقِها ** والراحلون لرحلة الإيلافِ

والرائشون وليس يُوجد رائشٌ ** والقائلون هَلُمَّ للأَضْيافِ

والخالطون غنيَّهم بفقيرهم ** حتى يصير فقيرُهم كالكافي

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجافِ

فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.
ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول ثالث: أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها، كما قال الشاعر:
تَشْتي بِمكة نعمةً ** ومَصيفُها بالطائِف

وهذه من جلائل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.
{فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ} أمرهم الله تعالى بعبادته، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان:
أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان، فميز نفسه عنها.
الثاني: أنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيرًا بنعمته.
وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله: {فليعبدوا} أربعة أوجه:
أحدها: فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف.
الثاني: فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف.
الثالث: فليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
الرابع: فليتركوا رحلة الشتاء والصيف بعبادة رب هذا البيت، فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه.
{الذي أطْعَمَهم من جُوعٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أطعمهم من جوع بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق، قاله ابن عيسى.
الثاني: أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه السلام. حين قال: {وارْزُقهم من الثمرات} قاله ابن عباس.
الثالث: أن جوعًا أصابهم في الجاهلية، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعامًا، فحملوه، فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فهو معنى قوله: {الذي أطعمهم من جوع}.
{وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيمًا لحرمة الحرم، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {ربِّ اجْعَلْ هذا بلدًا آمِنًا}، قاله ابن عباس.
الثاني: من خوف الحبشة مع الفيل، قاله الأعمش.
الثالث: آمنهم من خوف الجذام، قاله الضحاك والسدي وسفيان الثوري.
الرابع: يعني آمن قريشًا ألا تكون الخلافة إلا فيهم، قاله علي رضي الله عنه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي: {لإيلاف قريش إيلافهم} على إفعال والهمزة الثانية ياء.
وقرأ ابن عامر: {لألآف} على فعال {إيلافهم} على أفعال بياء في الثانية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: بهمزتين فيهما الثانية ساكنة، قال أبو على: وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له.
وقرأ أبو جعفر: {إلْفهم} بلام ساكنة، و{قريش} ولد النضر بن كنانة، والتقرش: التكسب، وتقول ألف الرجل الأمر وآلفه غيره، فالله عز وجل آلف قريشًا أي جعلهم يألفون رحلتين في العام، رحلة في الشتاء وأخرى في الصيف، ويقال أيضًا ألف بمعنى آلف، وأنشد أبو زيد: الطويل:
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ** شعاع الضحى في جيدها يتوضح

فألف وإلاف مصدر ألف، و{إيلاف} مصدر آلف، قال بعض الناس: كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة، وقيل الأرباح، ومنه قول الشاعر: الكامل:
سفرين بينهما له ولغيره ** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقال ابن عباس: كانت {رحلة الشتاء} إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى من أرض الشام، قال أبو صالح: كانت جميعًا إلى الشام، وقال ابن عباس أيضًا: كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم، فهاتان رحلتا الشتاء والصيف، قال الخليل بن أحمد فمعنى الآية: لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من الفهم هذه النعمة {فليعبدوا رب هذا البيت}.
قال القاضي أبو محمد: وذكر البيت هنا متمكن لتقدم حمد الله في السورة التي قبل، وقال الأخفش، وغيره: {لإيلاف}، متعلقة بقوله: {فجعلهم كعصف مأكول} [الفيل: 5]، أي ليفعل بقريش هذه الأفاعيل الجميلة، وقال بعض المفسرين معنى الآية: أعجبوا {لإيلاف قريش}، هذه الأسفار وإعراضهم عن عبادة الله، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي {أطعمهم} {وآمنهم} لا سفرهم، المعنى: فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال: وارزقهم من الثمرات، وآمنهم بدعوته حيث قال: {رب اجعل هذا البلد آمنًا} [إبراهيم: 35] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا، وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل، وهذا قول مردود، وقال عكرمة: معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم {فليعبدوا رب هذا البيت} لآخرتهم، وقال قتادة: إنما عددت عليهم الرحلتان لأنهم كانوا يأمنون الناس في سفرتهم، والناس بغير بعضهم على بعض، ولا يمكن قبيلًا من العرب أن يرحل آمنًا، كما تفعل قريش، فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم، وقوله تعالى: {من جوع} معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء، وقوله تعالى: {من خوف} أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون، ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف، وقال ابن عباس والضحاك: {من خوف} معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذومًا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إيلافهم}
قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والتغلبي عن ابن ذكوان، عنه {إلافهم} بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم.
وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم {إلفهم} بسكون اللام أيضًا.
ورواه الشموني إلا حمادًا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء.
وقرأ الباقون بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة مثل {إيلافهم}.
وجمهور العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف.
قال الفراء: والرحلة منصوبة بايقاع الفعل عليها.
قوله تعالى: {فليعبدوا ربَّ هذا البيت} أي: ليوحِّدوه {الذي أطعمهم من جوع} أي: بعد الجوع، كما تقول: كسوتك من عُرْي، وذلك أن الله تعالى آمَنَهم بالحرم، فلم يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، فكان ذلك سببًا لإطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى استَغْنوا.
قوله تعالى: {وآمنهم من خوف} وذلك أنهم كانوا آمنين بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا يَعْرِضُ لهم أحد. اهـ.

.قال القرطبي:

{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)}
قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى.
يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش؛ أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتُؤْلِف رحلتيها. وممن عدّ السورتين واحدة أبيّ بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه.
وقال سفيان بن عيينة: كان لنا أمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معًا.
وقال عمرو بن ميمون الأَوْدِيّ: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى: {والتين والزيتون} [التين: 1] وفي الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل: 1] و{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكَّر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: {لإيلاف قُريش} أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نِعْمَةً منا على قريش.
وذلك أن قريشًا كانت تخرج في تجارتها، فلا يُغار عليها ولا تُقْرب في الجاهلية.
يقولون: هم أهل بيت الله جلّ وعزّ؛ حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة؛ ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتًا في اليمن يَحُج الناس إليه؛ فأهلكهم الله عز وجل، فذكَّرهم نِعْمته.
أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش؛ أي ليألفوا الخروج ولا يُجْتَرَأ عليهم؛ وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه.
ذكره النحاس: حدّثنا أحمد بن شُعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدّثني عامر بن إبراهيم وكان ثقة من خيار الناس قال حدّثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدّثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} قال: نعمتي على قريش إيلافُهُمْ رحلة الشتاء والصيف.
قال: كانوا يَشْتون بمكة، ويَصِيفون بالطائف.
وعلى هذا القول يجوز الوقف على رؤوس الآي وإن لم يكن الكلام تامًا؛ على ما نبينه أثناء السورة.
وقيل: ليست بمتصلة؛ لأن بين السورتين {بسم الله الرحمن الرحيم} وذلك دليل على أنقضاء السورة وافتتاح الأخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: {فلْيعبدوا} أي فليعبدوا هؤلاء ربَّ هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار.
وكذا قال الخليل: ليست متصلة؛ كأنه قال: ألَّف الله قريشًا إيلافًا فليعبدوا ربَّ هذا البيت.
وعمِل ما بعد الفاء فيما قبلها لأنها زائدة غير عاطفة؛ كقولك: زيدًا فاضرب.
وقيل: اللام في قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} لام التعجب؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش؛ قاله الكسائيّ والأخفش.
وقيل: بمعنى إلى.
وقرأ ابن عامر: {لإِئلافِ قريش} مهموزًا مختلسًا بلا ياء.
وقرأ أبو جعفر والأعرج {لِيلاَف} بلا همز طلبًا للخفة.
الباقون {لإيلاف} بالياء مهموزًا مشبعًا؛ من آلَفْتُ أَولِفُ إيلافًا.
قال الشاعر:
المُنْعِمِين إذا النجوم تغيرتْ ** والظاعنين لرحلةِ الإِيلافِ

ويقال: أَلِفْتُه إلْفًا وإلافا.
وقرأ أبو جعفر أيضًا: {لإِلْفِ قُرَيش} وقد جمعهما من قال:
زَعَمْتُمْ أنّ إِخوتَكُمْ قُرَيْشٌ ** لهم إلف وليس لكم إلاف

قال الجوهريّ: وفلان قد ألِف هذا الموضعَ (بالكسر) يألفُه إلْفًا، وآلفه إياه غيره.
ويقال أيضًا: آلَفت الموضع أَولِفه إيلافًا.
وكذلك: آلفت الموضع أُولِفُه مُؤالفة وإلافًا؛ فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة.
وقرأ عِكرمة {لَيَأْلفْ} بفتح اللام على الأمر. وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ {لإيلاف}.
وقرأ بعض أهل مكة {إلاف قريش} واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فَلا تتركَنْه ما حيِيتَ لِمُعْظَمٍ ** وكنْ رجلًا ذا نَجْدةٍ وعَفافِ

تذود العِدا عن عُصْبة هاشميةٍ ** إلافُهم في الناس خيرُ إلاَفِ

وأما قريش فهم بنو النضر بن كِنانة بن خزيمة بن مدرِكة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشيّ دون بني كِنانة ومن فوقه.
وربما قالوا: قُرَيْشِيّ، وهو القياس؛ قال الشاعر:
بكل قُرَيْشِيّ عليه مَهابة

فإن أردت بقريش الحيّ صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه؛ قال الشاعر:
وكَفَى قُرَيشَ المُعْضِلاتِ وسادَها

والتقريش: الاكتساب، وتقرّشوا أي تجمعوا.
وقد كانوا متفرّقين في غير الحرم، فجمعهم قُصَيّ بن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مَسْكنًا.
قال الشاعر:
أبونا قُصَيّ كان يُدْعَى مُجَمِّعًا ** به جمع الله القبائلَ من فِهرِ

وقد قيل: إن قريشًا بنو فِهر بن مالك بن النضر.
فكل من لم يلده فِهر فليس بقرشيّ والأوّل أصح وأثبت.
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفو أُمنا، ولا ننتفِي من أبِينا» وقال وائلة بن الأسْقَع: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كِنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» صحيح ثابت، خرّجه البخاريّ ومسلم وغيرهما.
واختلِف في تسميتهم قريشًا على أقوال:
أحدها: لتجمُّعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام.
قال أبو جِلْدةَ اليَشْكُري:
إخوة قَرَّشُوا الذنوبَ علينا ** في حديثٍ مِن دهرهمْ وقديم

الثاني: لأنهم كانوا تِجارًا يأكلون من مكاسبهم.
والتَّقرُّش: التكسُّب.
وقد قَرَشَ يَقْرُشُ قَرْشًا: إذا كسب وجمع.
قال الفرّاء: وبه سميت قُريش.
الثالث: لأنهم كانوا يفتشون الحاج من ذي الخَلة، فيسدّون خَلته. والقَرْش: التفتيش.
قال الشاعر:
أَيُّها الشامتُ المقرش عنا ** عند عمرو فهلْ له إبقاء

الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشًا؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القِرش؛ تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعالى.
وأنشد قول تُبَّع:
وقريش هي التي تسكن البح ** ر بها سميت قريش قريشا

تأكل الرث والسمِين ولا تت ** رك فيها لذي جناحين رِيشا

هكذا في البلاد حيّ قُرَيشٍ ** يأكلون البلاد أكلًا كمِيشا

ولهم آخر الزمانِ نبيٌّ ** يكثر القتل فيهم والخُموشا

{إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)}
قرأ مجاهد وحميد {إلفهم} ساكنة اللام بغير ياء.
وروي نحوه عن ابن كثير.
وكذلك روت أسماء: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ {إلفهم}.
وروي عن ابن عباس وغيره.
وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة {إلافهم} مهموزًا مختلسًا بلا ياء.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {إئْلافهم} بهمزتين، الأولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ.
الباقون {إيلافهم} بالمدّ والهمز؛ وهو الاختيار، وهو بدل من الإيلاف الأول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف.
وألِف هو إلفًا؛ على ما تقدّم ذكره من القراءة؛ أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف.
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف} قال: لا يشُق عليهم رحلة شتاءٍ ولا صيفٍ؛ مِنَّةٌ منه على قريش.
وقال الهَرَوِيّ وغيره: وكان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل؛ بنو عبد مناف.
فأما هاشم فإنه كان يُؤْلف مَلِكَ الشام؛ أي أخذ منه حبلًا وعهدًا يأمن به في تجارته إلى الشام.
وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحَبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يُؤْلف يُجير. فكان هؤلاء الإخوة يسمَّون المُجِيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يُتَعَرَّض لهم.
قال الأزهريّ: الإيلاف: شبه الإجارة بالخَفارة؛ يقال: آلف يُؤْلِف: إذا أجار الحمائل بالخفَارة. والحمائل: جمع حَمولة.
قال: والتأويل: أن قُريشًا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضَرْع، وكانوا يَمِيرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخَطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حَرَم الله، فلا يَتَعرضُ الناس لهم.
وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدّثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدِّمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} إلفَهم رحلة الشتاء والصيف.
وذلك أن قريشًا كانوا إذا أصابت واحدًا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خِباء فماتوا؛ حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيدًا في زمانه، وله ابن يقال له: أسَد، وكان له تِرْب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه.
فقال له: نحن غدًا نعتفد. قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء؛ فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كانت بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدًا بعد واحد.
قال: فدخل أسد على أمّه يبكي، وذكر ما قاله تِربه.
قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أيامًا.
ثم إن تربه أتاه أيضًا فقال: نحن غدًا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتدّ ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبًا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقِلون فيه وتكثر العرب، وتذِلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع.
قال: ابتدئوا بهذا الرجل يعني أبا تِرب أسد فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكِباش والمعز، ثم هشم الثرِيد، وأطعم الناس؛ فسمي هاشمًا.
وفيه قال الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنِتون عِجاف

ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم؛ فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم:
والخالطون فقيرهم بغنيهم ** حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال: {ليعبدوا رب هذا البيتِ الذِي أَطعمهم مِن جوعٍ} بصنيع هاشم {وآمنهم مِن خوفٍ} أن تكثر العرب ويقِلوا.
قوله تعالى: {رِحْلَةَ الشتاء والصيف} {رِحلَةَ} نصب بالمصدر؛ أي ارتحالهم رِحلة، أو بوقوع {إيلافهم} عليه، أو على الظرف.
ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رِحلة الشتاء والصيف؛ لجاز. والأوّل أولى، والرحلة الارتحال.
وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لأنها بلاد حامية، والرحلة الأخرى في الصيف إلى الشام، لأنها بلاد باردة.
وعن ابن عباس أيضًا قال: كانوا يَشْتون بمكة لدِفئها، ويَصِيفون بالطائف لهوائها.
وهذه من أجلّ النعم أن يكون للقوم ناحية حَرّ تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية بردٍ تدفع عنهم حر الصيف؛ فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.
وقال الشاعر:
تَشْتِي بمكة نَعْمَةً ** ومَصِيفُها بالطّائِف

وهنا أربع مسائل:
الأولى: اختار القاضي أبو بكر بن العربيّ وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: {لإِيلاَفِ} متعلق بما قبله.
ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الأخرى وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر بسم الله الرحمن الرحيم، فقد تبين جواز الوقف في القراءة للقرأء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويًا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علِموها وقفوا حيث شاؤوا.
فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تُعِد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نَفَسك.
هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم.
قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} ثم يقف.
{الرحمن الرحيم} ثم يقف.
وقد مضى في مُقَدّمة الكتاب.
وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} ليس بقبيح.
وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تُقرأ في الركعة الأولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها مع قطع القراءة أركان؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلاّ أَنَّ قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} انتهاء آية.
فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلامُ يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي.
وأيضًا فإن الفواصل حِلية وزِينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور.
ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن؛ فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن الكلام المنظوم، فمن أظهرَ فواصله بالوقوف: عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف: يُخفي تلك المحاسن، ويُشبِّه المنثور بالمنظوم، وذلك إخلال بحق المقروء.
الثانية: قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن معه، لا يخلَعون عمائمهم حتى تطلع الثُّريا، وهو يوم التاسِعَ عَشَرَ من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس.
وأراد بطلوع الثريا أن يخرج السُّعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أوّل الصيف ودُبُرَ الشتاء.
وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه.
وقال عنه أشهب وحده: إذا سقَطَتِ الهَقْعَة نقص الليل، فلما جُعل طلوع الثريا أوّل الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر.
وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور.
ولو قال حتى يدخل الصيف؛ لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس.
قال القُرَظِيّ: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لأنك إذا حسبت المنازل على ما هي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازله إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم.
الثالثة: قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقَيظ، وخريف.
والذي قاله مالك أصح؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ولم يجعل لهما ثالثًا.
الرابعة: لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفًا، على ما تقدّم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر؛ كالجلوس في المجلس البحْري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادَهنَجات والخيَش للتبريد، واللبِّد واليانوسة للدّفء.
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}
أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لأجل إيلافهم رحلتين.
ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط؛ لأن المعنى: إمّا لا فليعبدوه لإيلافهم؛ على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تُحْصَى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان:
أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان فميز نفسه عنها.
الثاني: لأنهم بالبيت شُرِّفوا على سائر العرب؛ فذكر لهم ذلك، تذكيرًا لنعمته.
وقيل: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين.
قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بُصْرَى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} أي يقيموا بمكة.
رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.
قوله تعالى: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ}
أي بعدَ جوعِ.
{وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126].
وقال ابن زيد: كانت العرب يُغير بعضها على بعض، ويَسْبِى بعضها من بعض، فأمَنتْ قُرَيش من ذلك لمكان الحرم- وقرأ- {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57].
وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحَبَشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه؛ فخافت قريش منهْم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم مُتَحَرّزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالأفوات؛ فكان أهل مكة يخرجون إلى جُدَّة بالإبل والحُمُر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين.
وقيل: هذا الإطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: «اللهم اجْعَلها عليهمْ سِنِينَ كسِنِى يُوسُف» فاشتد القَحْط، فقالوا: يا محمدُ ادعُ الله لنا فإنا مؤمنون.
فدعا فأخصَبتْ تَبَالة وجُرَشُ من بلاد اليمن؛ فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها.
وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي من خوف الجُذام، لا يصيبهم ببلدهم الجُذام.
وقال الأعمش: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي من خوف الحَبَشة مع الفيل.
وقال علي رضى الله عنه: وآمنهم مِن خوف: أن تكون الخلافة إلا فيهم.
وقيل: أي كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم. اهـ.